الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***
وهو من شواهد س: قالت ألا ليتما هذا الحمام لن *** إلى حمامتن ونصفه فقد على أن ليت إذا اتصل بها ما جاز أن تعمل، وأن تلغى. وقد روي هذا البيت بالوجهين، والإلغاء أكثر. قال سيبويه: وأما ليتما زيداً منطلق، فإن الإلغاء فيه حسن، وقد كان رؤبة بن العجاج ينشد هذا البيت رفعاً، وهو قول النابغة الذبياني: ألا ليتما هذا الحمام البيت فرفعه على وجهين: على أن يكون بمنزلة قول من قال مثلاً ما بعوضة، ويكون بمنزلة قوله: إنما زيد منطلق. وأما لعلما فهو بمنزلة كأنما. قال الشاعر: تحلل وعالج ذات نفسك وانظرن *** أبا جعل لعلما أنت حالم وقال الخليل: إنما لا تعمل فيما بعدها، كما أن أرى إذا كانت لغواً لم تعمل، فجعلوا هذا نظيرها من الفعل كما كان نظير إن من الفعل ما يعمل. ونظير إنما قول الشاعر: أعلاقةً أم الوليد بعدم *** أفنان رأسك كالثغام المخلس جعل بعد مع ما بمنزلة حرف واحد، وابتدأ ما بعده. انتهى. ونقل ابن الشجري هذا الكلام، وقال: سيبويه وغيره من النحويين، يرون إلغاء ما في ليتما حسناً، فيرجحون النصب في ليتما زيداً منطلق، ويجيزون أن تكون كافة. وتشبيهه لها بأرى يدل على أنها ربما أعملت، لأن أرى ليست تلغى على كل حال، وتشبيهه إنما ببعدما، مانع من إعمال إنما، كما أن قوله: بعدما لا يصح إعماله. وقوله: لعلما بمنزلة كأنما يغلب عليها أن تكون ما فيها كافة، وإنما ولكنما في هذا نظيرتان، ليس فيهما في الأغلب الأكثر إلا الكف، فهما في إلغاء ما، دون لعلما وكأنما. وإنما غلب على ليتما العمل لقوة شبه ليت بالفعل. ألا ترى أن وددت بمعنى تمنيت، وليت هي علم التمني، فلذلك حسن نصب الجواب في قولك: وددت أنه زارني فأكرمه. انتهى. فظهر بما نقلنا إن إلغاء ليتما جائز حسن، وإعمالها أحسن وأكثر، خلاف ما زعمه الشارح المحقق. وذهب الفراء إلى أنه لا يجوز كف ما لليت ولا للعل بل يجب إعمالهما. وقول الشارح المحقق لأنها تخرج بما عن اختصاصها بالجملة الاسمية، يعني فتدخل على الجملة الفعلية. وفيه خلاف. قال صاحب الارتشاف: وأما مجيء الفعل بعد لعلما، وليتما، فهو مذهب البصريين، أجازوا: ليتما ذهبت، ولعلما قمت. وزعم الفراء أن ذلك لا يجوز، فلا تجيء الجملة الفعلية بعدهما. ووافقه على ذلك في ليتما خاصة أصحابنا المتأخرون، وزعموا أن ليتما باقية على اختصاصها بالجملة الاسمية. انتهى. وجزم ابن هشام في المغني بالاختصاص، تبعاً لابن الناظم وغيره، قال: وتقترن بها ما الحرفية فلا تزيلها عن الاختصاص بالأسماء، لا يقال: ليتما قال زيد، خلافاً لابن أبي الربيع، وطاهر القزويني. ويجوز: ليتما زيداً ألقاه على الإعمال، ويمتنع على إضمار فعل على شريطة التفسير. انتهى. وهذا هو الجيد، إذ لم يسمع دخولها على الفعلية. وقول سيبويه فرفعه على وجهين: على أن يكون بمنزلة من قال: مثلاً ما بعوضة...إلخ، قال النحاس: يريد أن ما موصولة، وأنه يضمر مبتدأ، أي: فيا ليت الذي هو هذا الحمام لنا. ويريد بالوجه الثاني أن ما كافة. ويجوز النصب على أن تكون ما زائدة للتوكيد، ويكون الحمام بدلاً من هذا. وكذا قال الأعلم في هذه الوجوه. وضعف ابن هشام في المغني موصولية ما في بحث ليت، وفي بحث ما الكافة، قال: هو مرجوح، لأن حذف العائد المرفوع بالابتداء في صلة غير أي، مع عدم طول الصلة قليل. وزاد في بحث ما: وسهل ذلك تضمنه إبقاء الإعمال. ورد عليه بأن الصلة هنا قد طالت بالصفة، ومع احتمال الموصولية لا دليل على إهمالها، ولولا أن سيبويه ذكر الإهمال لمنع. والبيت من قصيدة للنابغة الذبياني، يخاطب بها النعمان بن المنذر، ويعاتبه، ويعتذر إليه مما اتهم به عنده. وقد مضى شرح سببها وأكثرها في ماوضع عديدة، فلنذكر هنا منها ما يتم معنى البيت. وقبله: فاحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت *** إلى حمام شراع وارد الثمد يحفه جانبا نيق وتتبعه *** مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد قالت ألا ليتما هذا الحمام لن *** إلى حمامتن ونصفه فقد فحسبوه فألفوه كما ذكرت *** تسعاً وتسعين لم تنقص ولم تزد فكملت مائة فيها حمامته *** وأسرعت حسبةً في ذلك العدد قوله: فاحكم كحكم، أي: كن حكيماً كهذه الفتاة، أي: أصب في أمري كإصابتها في حدسها بالنظر الصحيح. قال الجواليقي في شرح أدب الكاتب: الحكم: الحكمة، مثل نعم ونعمة. وكذا في شرح ابن السيد قال: هو من الحكم الذي يراد به الحكمة، لا من الحكم الذي يراد به القضاء. قال تعالى: {ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً وعلماً ، أي: حكمة، يقال من ذلك: حكم الرجل يحكم من باب نصر، إذا صار حكيماً. قال النمر بن تولب: أحبب حبيبك حباً رويد *** فليس يعولك أن تصرما وأبغض بغيضك بغضاً رويد *** إذا أنت حاولت أن تحكما انتهى. وأراد بفتاة الحي: زرقاء اليمامة. قال الزمخشري في أبصر من الزرقاء من مستقصى الأمثال: هي من بنات لقمان بن عاد، ملكة اليمامة. واليمامة اسمها، فسميت البلدة باسمها. وقيل اسمها: عنز، وهي إحدى الزرق الثلاث أعينها، والزباء، والبسوس. وكانت جديسية، وحين قتل جديس طسماً استجاش قبيلة طسم حسان بن تبع إلى اليمامة، فلما صاروا من جو على مسيرة ثلاث ليال صعدت الأطم الذي يقال له: الكلب، فنظرت إليهم، وقد استتر كل بشجرة تلبيساً عليها، فارتجزت بقولها: أقسم بالله لقد دب الشجر *** وحمير قد أخذت شيئاً تجر فكذبها قومها، فقالت: والله لقد أرى رجلاً ينهش كتفاً، ويخصف نعلاً. فما تأهبوا حتى صبحهم الجيش. ولما ظفر بها حسان، قال: ما كان طعامك؟ فقالت: درمكة في كل يوم بمخ قال: فبم كنت تكتحلين؟ قالت: بالإثمد. وشق عينها فرأى عروقاً سوداً من الإثمد. وهي أول من اكتحل بالإثمد من العرب. انتهى المقصود منه. وقال ابن المستوفي: كانت زرقاء اليمامة تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام، ويضرب بها المثل، يقال: أبصر من زرقاء اليمامة. واليمامة بلد، وكان اسمها الجو فسميت باسم هذه المرأة، لكثرة ما أضيف إليها، وقيل: جو اليمامة. وقالوا: هي من بنات لقمان بن عاد، وقيل: هي من جديس. انتهى. والحمام، قال ابن قتيبة في أدب الكاتب: يذهب الناس إلى أنها الدواجن التي تستفرخ في البيوت، وذلك غلط، إنما الحمام ذوات الأطواق وما أشبهها، مثل الفواخت والقماري والقطا. قال ذلك الأصمعي، ووافقه عليه الكسائي. قال حميد بن ثور: وما هاج هذا الشوق إلا حمامة *** دعت ساق حر ترحةً وترنما فالحمامة ها هنا القمرية. وقال النابغة: واحكم كحكم فتاة الحي ....... ....البيت قال الأصمعي: هذه زرقاء اليمامة، نظرت إلى قطاً. قال: أما الدواجن في البيوت، فإنها وما شاكلها من طير الصحراء: اليمام. انتهى. قال ابن السيد في شرحه: ما نقله عن الأصمعي والكسائي صحيح، وقد يقال لليمام حمام أيضاً. حكى أبو عبيد في الغريب المصنف عن الأصمعي أنه قال: اليمام ضرب من الحمام بري. وحكى أبو حاتم عن الأصمعي في كتاب الطير الكبير: واليمام، واحده يمامة، الحمام البري. وحمام مكة يمام أجمع. قال أبو حاتم: والفرق بين الحمام الذي عندنا، واليمام: أن أسفل ذنب الحمام مما يلي ظهرها إلى البياض، وكذا حمام الأمصار، وأسفل ذنب اليمامة لا بياض فيه. وليس في بيت النابغة من الدليل على أنه أراد بالحمام القطا مثل ما في بيت حميد بن ثور من الدليل على أنه أراد بالحمامة القمرية. وإنما علم ذلك بالخبر المروي عن زرقاء اليمامة، أنها نظرت إلى قطاً، فقالت: يا ليت ذا القطا لن *** ومثل نصفه معه إلى قطاة أهلن *** إذن لنا قطاً ميه وقد روي أنها قالت: ليت الحمام ليه *** إلى حمامتيه ونصفه قديه *** تم الحمام ميه ثم قال: وكان الأصمعي يروي: شراع بالشين المكسورة المعجمة يريد: التي شرعت في الماء. وروى غيره: سراع بالسين غير معجمة، وهنا جمع شارعة وسريعة. والرواية الثانية أولى، لاستغنائها عن دعوى التأكيد. والثمد: الماء القليل. وأفرد وارداً، وإن كان صفة لحمام حملاً على معنى الجمع، كما قال تعالى: {من الشجر الأخضر . انتهى. فإن الحمام اسم جنس، يفرق بينه وبين واحده بالتاء، ومثله يجوز أن يعتبر جمعاً ومفرداً كما هنا، فإن وصفه جمع تارة وهو شراع، وأفرد أخرى وهو وارد. وهذا البيت من شواهد سيبويه، قال الأعلم: الشاهد فيه إضافة وارد إلى الثمد، على نية التنوين والنصب، ولذلك نعت به النكرة مع إضافته إلى المعرفة، إذ كانت إضافته غير محضة. وقوله: يحفه جانبا نيق ...إلخ، أي: أحاط به. والضمير للحمام. وجانب: مثنى جانب، حذفت نونه للإضافة، وهو فاعل يحفه. والنيق ، بكسر النون، قال ابن قتيبة في أبيات المعاني: النيق: الجبل. يقول: كان الحمام في موضع ضيق قد ركب بعضه بعضاً، فهو أشد لعده. وقوله: وتتبعه ...إلخ، مضارع أتبعه، وفاعله ضمير الفتاة، والهاء ضمير الحمام، ومثل مفعول صفة لمحذوف. قال ابن قتيبة: أي: تتبعه عيناً مثل الزجاجة. لم تكحل تلك الفتاة من الرمد، أي: لم يكن بها رمد فتكحل منه. مثل قول الآخر: على لاحب لا يهتدى بمناره وقوله: قالت ألا ليتما ...الخ قال ابن قتيبة: ونصفه، أرادت ونصفه، وبمعنى الواو. قال ابن هشام في المغني: هذا قول الكوفيين والأخفش والجرمي. واحتجوا بأبيات منها هذا البيت. ويقويه أنه روى: ونصفه ، بالواو. انتهى. ورد ابن الأنباري في مسائل الخلاف على الكوفيين بأن الرواية بالواو لا بأو، ولو سلمنا، فنقول: وفيه باقية على أصلها، وهو أن يكون التقدير ليتما هذا الحمام، وهو ونصفه، فحذف المعطوف، وحرف العطف، كقوله تعالى: {فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت ، أي: فضرب فانفجرت. وعلى هذا قول الشاعر: ألا فالبثا شهرين ونصف ثالث أي: وشهرين ونصف ثالث. ألا ترى أنك لا تقول مبتدئاً نصف ثالث. وإذا وجب أن يكون المعطوف عليه محذوفاً، كانت وباقية على أصلها. هذا كلامه. ولا يخفى أن تخريجه، لا يتمشى على رواية النصب، وإنما هو على رواية الرفع، مع أن المعنى ليس عليه، فإنها لم تتمن أحدهما، وإنما تمنت كليهما، وإن كان لرفع نصفه مه نصب الحمام وجه ذكره ابن هشام في شرح الشواهد، قال: وقد يجوز الرفع مع نصب الحمام. وذلك على أن تجعله معطوفاً على الضمير المستتر في لنا، وحسن ذلك لأجل الفصل. وقوله: فحسبوه فألفوه حسب بتشديد السين بمعنى المخفف، أي: عدوه. والهاء في موضعين ضمير الحمام. وألفوه: وجدوه. قال ابن قتيبة: نظرت هذه المرأة إلى حمام مر بها بين جبلين، وكان ستاً وستين، فقالت: ليت لي هذا الحمام ونصفه، وهو ثلاث وثلاثون، إلى حمامتي، فيتم لي مائة. فنظروا فإذا هو كما قالت. قال حمزة الأصفهاني في أمثاله: قال بعض أصحاب المعاني: إن النابغة لما أراد مدح هذه الحكيمة الحاسبة بسرعة إصابتها، شدد الأمر وضيقه ليكون أحسن له إذا أصاب، فجعله حزر طير، إذ كان الطير أخف ما يتحرك، ثم جعله حماماً، إذ كان الحمام أسرع الطير، ثم كثر العدد إذ كانت المسابقة والمنافسة، ثم ذكر أنها صارت بين نيقين، لأن الحمام إذا كان في مضيق من الهواء كان أسرع طيراناً منه، إذا اتسع عليه الفضاء، ثم جعلها واردة للماء لأن الحمام إذا وردت الماء أعانها الحرص للماء على سرعة الطيران. انتهى. وأغرب الجواليقي هنا فقال: قال الأصمعي: سمعت ناساً يحدثون أن ابنة الخس كانت قاعدة في جوار، فمر بها قطاً وارد في مضيق من الجبل، فقالت: يا ليت ذا القطا لن *** ومثل نصفه معه إلى قطاة أهلن *** إذن لنا قطاً ميه فأتبعت القطا فعدت على الماء، فإذا هي ست وستون. انتهى. وابنة الخس ، بضم الخاء المعجمة، وتشديد السين المهملة، واسمها عند الإيادية. وهي جاهلية قديمة، وقد أدركت القلمس أحد حكام العرب في الجاهلية، تحاكمت هي، وأختها خمعة إليه في كلام لهما، ومدحته بأبيات منها: إذا الله جازى منعماً بوفائه *** فجازاك عني يا قلمس بالكرم وبعض الرواة يزعم أنها ماتت في زمن النعمان عند هند ابنته، ويستشهد على ذلك بقول الفرزدق: وفيت بعهد كان منك تكرم *** كما لابنة الخس الإيادي وفت هند وليس الأمر كذلك، وإنما مراد الفرزدق أن هنداُ وفت لأختها خمعة ابنة الخس، لا أنها عند ابنة النعمان. وقد ترجمها الشريف المرتضى في أماليه وذكر طرفاً من أمورها. وقد أجحف الزمخشري في قصة الزرقاء ، فنقول: إن اليمامة كان اسمها جواً في الزمن الأول، وكان لأمتين إحداهما: طسم بن لوذ بن سام بن نوح، والأخرى: جديس بن جاثر بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، وكانوا أصحاب زرع، ونخيل، ومواش، وكان ملكهم من طسم يقال له: عملوق، وعمليق، أفرط في جوره على جديس حتى أمر أن لا تزف امرأة من جديس إلا أتي بها إليه حتى يفتضها قبل زوجها، فلما افتض بنت غفار خرجت من عنده رافعة صوتها، ملطخة بدمها، وهي تقول: لاأحد أذل من جديس *** أهكذا يفعل بالعروس في أبيات، كما تقد م شرح هذه القصة مفصلاً في الشاهد الخامس والعشرين بعد المائة. فلما سمع قومها ذلك اشتد غضبهم ومشى بعضهم إلى بعض، وكان أخوها ابن غفار سيدهم، فلما رأى ذلك من حال القوم، قال: اطيعوني وإلا قتلت نفسي. قال: اكتب إلى الملك: إني قد زوجت أختي فليحضر الملك، وجميع أهله إلى طعامي. فإذا أتوكم قام كل واحد منكم على رأس رجل منهم، وقد دفن سلاحه تحت رجله، فإذا قرب الطعام، فليقل كل رجل منكم من يليه. فقتلوا جميعهم إلا رجلاً يقال له: رياح بن مرة فإنه أفلت منهم، واستصحب كلبة له، وأخذ جريدة من جرائد نخلهم، فطلاها بالطين، ثم توجه حتى أتى حسان بن تبع مذعوراً، فقال له: ما وراءك؟ قال: أتيتك من عند قوم كنا ملوكهم، وساداتهم، وقد وثبوا علينا ظلماً - وذكر القصة - وفيهم زروع ومواش، وتبر، وورق ومسك وعنبر، وجميع آلة الدنيا، وفيهم امرأة يقال له: عنز تغذى بالزبد والشهد والمخ، كأنها القمر ليلة البدر. فلما سمع ذلك حسان دعا قومه، وأسمعهم كلام رياح، فقالوا: ما لنا ولأمة قتلت أختها، ليس بيننا وبينهم حرب، على أن بلدهم شاسع، ومسلكهم بعيد. قال الملك: أرأيتم إن ظلم أخ أخاه أليس يجب على الملك أن ينصره؟ قالوا: بلى. قال لهم رياح: كيف يكون بلدي شاسعاً، وهذه جريدة من نخلها رطبة، فلو كان بعيداً يبست، وهذه كلبتي قد تبعتني عرجاء. وكان قد ضربها عند دخوله فعرجت! فلم يزل بهم حسان حتى أجابوه إلى المسير، فساروا في ثلثمائة ألف، فلما كان من جو على مسيرة ثلاثة أيام، قال لهم رياح: إن فيهم امرأة يقال لها: اليمامة تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام، فاقطعوا الشجر، وليضع كل راكب منكم بين يديه غصناً من أغصانها ليشتبه عليها. فقامت اليمامة على رأس حصن لهم يقال له: البتيل، فقالت: أي قوم، زحفت إليكم حمير، وأرى شجراً، وخلفها بشراً. فكذبوها، وقالوا: ما تزالين تأتينا بالإفك! ثم رجعت بصرها، فوضح لها صدق ما رأت، فقالت: خذوا حذاركم يا قوم ينفعكم *** فليس ما قد أرى بالأمس يحتقر إني أرى شجراً من خلفها بشر *** وكيف تجتمع الأشجار والبشر خذوا طوائفكم من قبل داهية *** من الأمور التي تخشى وتنتظر فقد زجرت سنيح القوم باكرةً *** لو كان يعلم ذاك القوم إذ بكروا إني أرى رجلاً في كفه كتف *** ويخصف النعل خصفاً ليس يبتدر فغوروا كل ماء قبل ثالثة *** فليس من بعده ورد ولا صدر وناهضوا القوم بعض الليل إذ رقدو *** ولا تخافوا لهم حرباً وإن كثروا فكذبها بعض، وقال بعض: إن كانت أمة طلبت غيرنا، لم نبدأهم بتغوير المياه والمناهضة. فلم يلبثوا أن صبحهم حسان بعد أربعة، فقتل الرجال، وسبى النساء، ودعا باليمامة فقلع عينها، فوجد فيها عروقاً سوداً، فسأل: ما الذي كانت تكتحل به؟ فقالوا: حجر يقال له الإثمد؟ فاكتحل بالإثمد من ذلك اليوم. فلما قتلها، صلبها على باب جو، فسميت بذلك اليمامة. وأتيت عنز بالجمل، فلم تدر ما الجمل من العزة. وإن الأسود بن غفار أفلت فلحق بجبلي طيئ فقتله عمرو بن لاغوث بن طيئ، كما تقدم شرحه في الشاهد الثامن والثمانين من أوائل الكتاب. وترجمة النابغة الذبياني تقدمت في الشاهد الرابع بعد المائة. وأنشد بعده: وهو من شواهد س: وكنت أرى زيداً كما قيل سيد *** إذا إنه عبد القفا واللهازم على أنه يجوز كسر إن وفتحها بعد إذا الفجائية. قال سيبويه: سمعت رجلاً من العرب ينشد هذا البيت كما أخبرك به - أي: بالكسر - فحال إذا هاهنا كحالها، إذا قلت: هو عبد القفا واللهازم. وإنما جاءت إن هنا لأن هذا المعنى أردت كما أردت في حتى معنى حتى هو منطلق. ولو قلت: مررت فإذا أنه عبد تريد فإذا العبودية واللؤم، كأنك قلت: مررت فإذا أمره العبودية واللؤم، ثم وضعت إن في هذا الموضع، جاز. انتهى. قال الأعلم: الشاهد في جواز فتح إن وكسرها بعد إذا. الكسر على نية وقوع المبتدأ والخبر بعد إذا، والتقدير: إذا هو عبد القفا. والفتح على تأويل المصدر مبتدأ، والإخبار عنه بإذا. انتهى. والإخبار بإذا مبني على كونها اسماً، وليس الإخبار بها واجباً عند القائل به. قال ابن هشام في شرح الشواهد، كما قال ابن يعيش: من يرى أن ذا ظرف، صح تقديرها خبراً، ولم يقدر محذوفاً، أي: فبالحضرة العبودية. وصح تقديرها متعلقة بخير محذوف، أي: فبالحضرة العبودية موجودة. وإن قيل: إنها حرف، وجب دعوى الحذف. انتهى. وإذا عند الشارح المحقق حرف، كما قرره في باب المبتدأ، وباب الظروف، ولهذا قدر الخبر. وكذا هي حرف عند السيرافي، إلا أنه جعل المحذوف المبتدأ، قال: وإذا فتحت قدر ما بعدها المصدر، أي: فإذا أمره العبودية، وذاك أن أن المفتوحة مقدرة بالمصدر، وإذا حرف لا عامل لها، لأنها دخلت لمعنى المفاجأة، وهي في معنى حروف العطف. انتهى. وقد فرق ابن يعيش معنى الكسر عن معنى الفتح، قال: إذا فتحت أردت المصدر، وكأنك قلت: فإذا العبودية واللؤم، كأنه رأى فعل العبد. وإذا كسرت، كأنه قد رآه نفسه عبداً. وقوله: وكنت أرى بضم الهمزة، بمعنى أظن، متعد إلى ثلاثة مفاعيل: أولها: نائب الفاعل، وهو ضمير المتكلم، وثانيها: زيد، وثالثها: سيد. وقول الشارح المحقق: أي عبد قفاه، برفع عبد منوناً، أشار بهذا التفسير إلى أن عبد القفا من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها. وقصد به الرد على صاحب المقتبس في زعمه أن القفا مقحم، ثم فسر كون قفاه عبداً باللئيم، لأنه حاصل المعنى. واللئيم: المهين والدنئ النفس، والشحيح، ونحو ذلك، لأن اللؤم ضد الكرم، ولهذا يضاف اللؤم إلى القفا، كما يشاف الكرم إلى الوجه، فيقال: لئيم القفا، وكريم الوجه. ثم فسر الشارح جهة كونه لئيماً بصفعان، وهو من يمكن من صفع قفاه ليأخذ شيئاً. ولا يرتضي هذا لنفسه إلا من هو في غاية المهانة والدناءة. قال الجوهري: الصفع كلمة مولدة، والرجل صفعان. انتهى. ولم يتعرض له ابن بري ولا الصفدي بشيء. ورد عليه الفيومي في المصباح، قال: صفعه صفعاً. والصفعة: المرة، وهو أن يبسط الرجل كفه، فبضرب بها قفا إنسان وبدنه. فإذا قبض كفه، ثم ضربه، فليس بصفع، بل يقال: ضربه بجمع كفه. قاله الأزهري وغيره. ورجل صفعان لمن يفعل به ذلك. ولا عبرة بقول من جعل هذه الكلمة مولدة مع شهرتها في كتب الأئمة. انتهى. وقول الشارح المحقق: واللهزمتان: عظمان ...إلخ، اللهزمة، بكسر اللام والزاي، وسكون الهاء. والناتئ: اسم فاعل من نتأ الشيء بالهمز، ينتأ بفتحتين نتوءاً، إذا خرج من موضعه وارتفع من غير أن يبين. ويجوز تخفيف الفعل، كما يخفف قرأ، فهو نات منقوص. واللحي، بفتح اللام وسكون الحاء المهملة: عظم الحنك، وهو الذي يثبت عليه الأسنان. وقوله: جمعهما الشاعر بما حولهما يريد أن لكل حيوان لهزمتين لا غير، فالجمع على تأويل جب مذاكير فلان، بضم الجيم وتشديد الباء. قال صاحب المصباح: جببته جباً من باب قتل: قطعته، ومنه جببته فهو مجبوب بين الجباب بالكسر، إذا استؤصلت مذاكيره. وقال أيضاً الذكر: الفرج من الحيوان، جمعه ذكرة مثال عنبة، ومذاكير على غير قياس. وما ذكره الشارح من تفسير اللهزمتين، هو كلام صاحب الصحاح، وقال بعده: ويقال هما مضغتان علبتان تحتهما. والمضغة اللحم، سمي بها، لأنها مقدار ما يمضغ. والعلبة بالموحدة، من غلب اللحم بكسر اللام واستعلب، إذا غلظ. وروي أيضاً: عليتان بالمثناة التحتية المشددة. وقال أبو جعفر أحمد بن محمد: اللهازم: عروق في القفا. والصحيح ما قاله الجوهري. قال الأعلم: ومعنى عبد القفا واللهازم أن من بنظرهما، يتبين عبوديته ولؤمه؛ لأن القفا موضع الصفع، واللهزمة موضع اللكز، وهو بفتح اللام وسكون الكاف وآخره زاء معجمة: مصدر لكزه لكزاً من باب قتل، إذا ضربه بجمع كفه، بضم الجيم وسكون الميم. يقال: ضربه بجمع كفه، أي: مقبوضة. والمعنى: كنت أظن زيداً سيداً شريفاً، كما قيل فيه إنه سيد، فظهر انه لئيم، وكان ما قيل فيه باطلاً. وهذا البيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف قائل كل بيت منها. والله اعلم. وأنشد بعده: وهو من شواهد س: إني إذا خفيت نار لمرملة *** ألفى بأرفع تل رافعاً ناري ذاك وإني على جاري لذو حدب *** أحنو عليه بما يحنى على الجار على أن إن في هذا البيت، ليس فيها إلا الكسر. قال سيبويه: تقول ذاك، وأن لك عندي ما أحببت. وقال عز وجل: {وذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين ، وقال جل ثناؤه: ذلكم فذقوه وأن للكافرين عذاب النار . وذلك لأنها شركت ذلك، فيما حمل عليه، كأنه قال: الأمر ذلك وأن الله. ولو جاءت مبتدأة لجازت، يدلك على ذلك قوله تعالى: {ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ، وليس محمولاً على ما حمل عليه ذلك، فكذلك يجوز أن تكون إن منقطعة من ذلك. قال الأحوص: عودت قومي إذا ما الضيف نبهني *** عقر العشار على عسري وإيساري إني إذا خفيت نار لمرملة .....إلى آخر الشعر فهذا لا يكون إلا مستأنفاً غير محمول على ما حمل عليه ذاك. فهذا أيضاً يقوي ابتداء إن في الأول. انتهى. قال النحاس: إنما لم يجز في إن هاهنا إلا الكسر، لأن بعدها اللام، كما قال تعالى: {إن ربهم بهم يومئذ لخبير . وقال الأعلم: الشاهد في كسر إن لدخول لام التأكيد، ولو لم تدخل، لفتحت حملاً على ما قبلها. انتهى. ولما كان سيبويه فيه بعض خفاء لخصه الشارح المحقق وأوضحه. وذلك أن محصل كلام سيبويه جواز الوجهين في إن المذكورة، وقد جاء على الفتح وهو أحد الجائزين من قوله تعالى: {ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين ، وقوله تعالى: {ذلكم فذقوه وأن للكافرين عذاب النار . فاسم الإشارة في الآية الأولى خبر مبتدأ محذوف، التقدير: الأمر ذلكم، وأن مع معموليها في تأويل مصدر مرفوع معطوف على ذلك، وقد شاركته أن مع معموليها في الخبرية للمبتدأ المقدر. وهذا معنى قول سيبويه: وذلك لأنها شركت ذلك فيما حمل عليه، كأنه قال: الأمر ذلك وأن الله. قال البيضاوي: ذلكم إشارة إلى البلاء الحسن، والقتل، والرمي، ومحله الرفع: أي: المقصود والأمر ذلكم. وقوله تعالى: {وأن الله ...إلخ، معطوف عليه، أي: المقصود إبلاء المؤمنين، وتوهين كيد الكافرين، وإبطال حيلهم. انتهى. وهذا يكون من عطف المفردات. وأما قول الشارح المحقق: أي: الأمر ذلكم، والأمر أيضاً أن الله موهن، فتكرير المبتدأ للإيضاح، لا أنه من عطف الجمل. ثم قال سيبويه: ولو جاءت مبتدأة لجازت..إلخ، يريد: لو جاءت إن بعد اسم الإشارة مكسورة، كما تكسر في ابتداء الكلام لجازت. وهذا الوجه الثاني من الجائزين، وقد جاء عليه قوله تعالى: {هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب وقوله تعالى: {هذا وإن للطاغين لشر مآب فذلك في الأولى، وهذا في الثالثة خبر مبتدأ محذوف، أي: الأمر ذلك، والأمر هذا. وجملة إن معطوفة على الجملة قبلها في الثلاث، وهذا من عطف الجمل، وليس من العطف على اسم الإشارة حتى تشاركه في الخبرية. ومثل هذه الآيات قول الشاعر: ذاك وإني على جاري لذو حدب فذاك: خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: شأني ذاك، وأمري ذاك. وجملة: إني على جاري ...إلخ، معطوفة على الجملة قبلها. ويدل على أن هذا من عطف الجمل قوله تعالى في سورة الحج: ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله فقوله: لينصرنه الله، جواب قسم مقدر، وجملة القسم المقدر مع جوابه خبر من عاقب...إلخ، وجملة: من عاقب ...إلخ، معطوفة على الجملة المحذوف مبتدؤها، أي: الأمر ذلك، ومن عاقب...إلخ. فالبيت المذكور مثل هذه الآية في الإعراب. وقول الشارح المحقق: فالجملة القسمية عطف على الجملة المقدمة، فيه مسامحة، وأراد الجملة التي خبر مبتدئها جملة قسمية. ولنرجع إلى شرح الأبيات، فنقول: قوله: عودت قومي ...إلخ، أراد بقوله: نبهني: طرقني ليلاً فنبهني. وعقر: المفعول الثاني لعود، ومفعوله الأول: قومي، وهو مصدر عقرت البعير من باب ضرب، إذا ضربت قوائمه بالسيف. ولا يكون العقر في غير القوائم، وربما قيل: عقره، إذا نحره. والعشار: جمع عشراء، وهي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر، ومثله نفاس جمع نفساء. ولا ثالث لهما. والعشار عند العرب أعز الإبل، فذبحها للضيف يكون غاية في الجود والإكرام. وقوله: على عسري وإيساري ، أي: أعقرها على كل حالة سواء كنت معسر وموسراً. والعسر: الفقر، وهو اسم للإعسار. يقال: أعسر الرجل، إذا افتقر. والإيسار: مصدر أيسر الرجل، إذا صار ذا غنىً. والاسم اليسار بالفتح، وهو الغنى. وقوله: إني إذا خفيت ...إلخ، ألفى جواب إذا، وجملة: إذا خفيت ...إلخ، خبر إني. قال الأعلم: قوله أن بالفتح محمول على البدل من العقر، لأن عقر العشار مشتمل على إيقاد النار، ودال عليه، فكأنه قال: عودت قومي أني أوقد النار للطارق. وكسر إن هاهنا أجود على الاستئناف والقطع. والمرملة: الجماعة التي نفذ زادها. ورجل مرمل: لا شيء له، مشتق من الرمل، كأنه لا يملك غيره، كما يقال: ترب الرجل، إذا افتقر. يقال: أرمل الرجل، إذا نفذ زاده وافتقر، فهو مرمل. وجاء أرمل على غير قياس، والجمع أرامل. وأرملت المرأة فهي أرملة، للتي لا زوج لها، لافتقارها إلى من ينفق عليها. وقال الأزهري: لا يقال لها أرملة إلا إذا كانت فقيرة، فإن كانت موسرة فليست بأرملة. والجمع أرامل. وألفى بالبناء للمجهول من ألفيته إذا وجدته، متعد لمفعولين: أحدهما: نائب الفاعل وهو ضمير المتكلم، وثانيهما: قوله رافعاً. والتل: ما ارتفع من الأرض. وإيقاد النار في الأماكن العالية من أخلاق الكرام حتى يهتدي الضيف إليه في الليل المظلم ويأتي. يقول: إذا خفيت نار غيري، بأن لا توقد في أيام الجدب والقحط، فأنا أوقدها في تلك الأيام. يصف نفسه بشدة الكرم. وقوله: ذاك إشارة إلى عقر العشار، وإيقاد النار. فإن قلت: كيف أشير بذاك إلى اثنين؟ قلت: صح لأنه بتأويل ما ذكر. وكذا قوله: عوان بين ذلك ، أي: بين الفارض والبكر. وذاك: خبر مبتدأ محذوف، أي: شأني وأمري ذاك. وجملة: إني لذو حدب: معطوفة على الجملة المحذوف صدرها، وأوجب كسر إن هنا، لوجود اللام في الخبر، ولولاها لجاز فتح إن، وكانت مؤولة مع معموليها بمصدر مرفوع معطوف على ذاك، عطف مفرد على مفرد. والحدب بفتح الحاء المهملة والدال: مصدر حدب عليه كفرح، إذا عطف عليه، وأحنو خبر بعد خبر والحنو بمعنى الحدب. في المصباح: حنت المرأة على ولدها تحنى وتحنو حنواً: عطفت، وأشفقت، فلم تتزوج بعد أبيهم. وقوله: بما يحنى بالبناء للمفعول. والأحوص بمهملتين شاعر إسلامي، تقدمت ترجمته في الشاهد الخامس والثمانين من أوائل الكتاب. وأنشد بعده: وهو من شواهد س: أحقاً أن أخطلكم هجاني على أن حقاً في معنى الظرف، فأن مع معموليها مؤولة بمصدر فاعل لثبت محذوفاً، وفاعل للظرف على الخلاف في نحو: أعندك زيد، ومبتدأ مؤخر والظرف قبله خبر. وإنما قال في معنى الظرف، لأنه ظرف مجازي مشتمل على المحقق، كاشتمال الظرف على المظروف. والدليل على أنه جار مجرى الظرف وقوعه خبراً عن المصدر دون الجثة، كما أن ظرف الزمان كذلك. قال الأعلم: جاز وقوعه ظرفاً، وهو مصدر في الأصل، لما بين الفعل والزمان من المضارعة، وكأنه على حذف الوقت، وإقامة المصدر مقامه، كما قالوا: أتيتك خفوق النجم، فكأن تقديره: أفي وقت حق. انتهى. وهذا الوجهان معروفان في الظرف المعتمد. هذا إن كان حقاً منصوباً على المصدر فأن فاعل لا غير، تقول: أحقاً أنك ذاهب، أي: أحق ذلك حقاً. فقولك: حق فعل ماض هو الناصب لحقاً، وأن فاعل المصدر، وفاعل الفعل على الخلاف فيه، والهمزة للاستفهام. فإن قلت: إذا كان حقاً تفسيراً لأما، فمن أين جاء الاستفهام حتى قال الشارح المحقق: أي: أأحق ذلك حقاً؟ قلت: تفسيرها بحقاً أحد قولين، والثاني: أنها بمعنى أحقاً مع همزة الاستفهام، وهو الصحيح. فإن قلت: ظاهر أما أنها حرف، فكيف تكون بمعنى حقاً، وأحقاً، وكيف تكون أن في قولهم: أما أنك قائم فاعلاً، ومبتدأ؟ قلت: قال ابن هشام في المغني، قال بعضهم: هي اسم بمعنى حقاً، وقال آخرون: هي كلمتان الهمزة للاستفهام، وما اسم بمعنى شيء حق، فالمعنى أحقاً. وهذا هو الصواب، وموضع ما النصب على الظرفية كما انتصب حقاً على ذلك في نحو قوله: أحقاً أن جيرتنا استقلوا وهو قول سيبويه، وهو الصحيح بدليل قوله: أفي الحق أني مغرم بك هائم فأدخل عليها في، وأن وصلتها: مبتدأ، والظرف: خبره. وقال المبرد: حقاً مصدر لحق محذوفاً، وأن وصلتها: فاعل. انتهى. ووجه الصواب في كونها بمعنى أحقاً: أنك إذا قلت: أما أنك قائم، فيه معنى الاستفهام، فلو كان أما مجموعها بمعنى حقاً لزم إما أن لا يكون استفهام، وهو خلاف المعنى؛ وإما أن يقدر أداته دائماً. ويرد أنه لم يلفظ به معها في وقت قط، مع أن حذف الهمزة بدون أن شاذ عند سيبويه، ضرورة عند غيره، وكلها بعيدة عن الصواب. وإذا كانت مركبة من الهمزة وما، كان كل معنى مستفاداً من لفظه الموضوع له. وما هذه نكرة تامة، لا تحتاج إلى صفة وصلة، عامة بمعنى شيء، ومن ما صدقاتها حق. ولذلك قال: بمعنى شيء، وذلك حق، ولم يقل ابتداء بمعنى حق. وليست التامة التي في قوله تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعمل هي ؛ لأنها بمعنى الشيء، خلافاً لابن الملا، فإنه زعم أنها كالتي في الآية، وقال: أي فنعم شيئاً هي. فأخطأ في موضعين. وإذا كان مجموع أما بمعنى حقاً غير صواب، فما الظن بالقول بحرفيتها؟ قال ابن هشام: وهي حرف عند ابن خروف، وجعلها مع أن ومعموليها كلاماً تركب من حرف واسم، كما قال الفارسي في: يا زيد. انتهى. وهذا بعيد عن الصواب بمراحل كما لا يخفى. وقول ابن هشام: وأن وصلتها: مبتدأ، والظرف: خبره ، هذا مرجوح، والراجح كونه فاعلاً للظرف، ولثبت محذوفاً. وما نقله عن المبرد هو المشهور. وزعم العيني أن مذهبه كون حقاً صفة لمصدر محذوف، أي: أهجاني أخطلكم هجواً حقاً. وهذا غير مشهور، ومذهب سيبويه في حقاً هو الراجح، ووجهه ما ذكره الشارح وابن هشام. وفي التذكرة القصرية: قلت لأبي علي: قوله: أحقاً أن أخطلكم هجاني، يدل على أن حقاً بمعنى: أفي الحق، لأنه ليس يريد أتحقون حقاً أن أخطلكم هجاني، وإنما يريد أفي الحق، أي: أخبروني هل هجاني أخطلكم؟ وليس يريد: أتحقون هذا الخبر؟ فلم ينكر أبو علي هذا، وصححه وصوبه. انتهى. وبهذا يعلم أنه ليس المعنى أهجاني هجواً حقاً. وهذا نص سيبويه وفيه فوائد كثيرة، قال في باب من أبواب إن تكون أن فيه مبنية على ما قبلها: وذلك قولك: أحقاً أنك ذاهب؟ والحق أنك ذاهب، وكذلك: أأكبر ظنك أنك ذاهب، وأجهد رأيك أنك ذاهب. وكذلك هما في الخبر. وسألت الخليل رحمه الله، فقلت له: ما منعهم أن يقولوا: أحقاً إنك ذاهب، على القلب. كأنك قلت: إنك ذاهب حقاً؟ وإنك ذاهب الحق؟ فقال: لأن إن لا تبتدأ في كل موضع، ولو جاز هذا؛ لجاز يوم الجمعة إنك ذاهب، تريد إنك ذاهب يوم الجمعة. ولقلت أيضاً: لا محالة إنك ذاهب، تريد: إنك لا محالة ذاهب. فلما لم يجز ذلك حملوه على أحق أنك ذاهب، وأفي أكبر ظنك أنك ذاهب، وصارت أن مبنية عليه، كما تبني الرحيل على غد إذا قلت: غداً الرحيل. والدليل على ذلك إنشاد العرب كما أخبرتك. زعم يونس أنه سمع العرب يقولون في بيت الأسود بن يعفر: أحقاً بني أبناء سلمى بن جندل *** تهددكم إياي وسط المجالس فزعم الخليل أن التهدد هنا بمنزلة الرحيل بعد غد، وأن أن بمنزلته، وموضعه كموضعه. ونظير أحقاً أنك ذاهب، من أشعار العرب، قول العبدي: أحقاً أن جيرتنا استقلو *** فنيتنا ونيتهم فريق وقال عمر بن أبي ربيعة: أألحق إن دار الرباب تباعدت *** وانبت حبل أن قلبك طائر وقال النابغة الجعدي: ألا أبلغ بني خلف رسول *** أحقاً أن أخطلكم هجاني فكل هذه البيوت سمعناها من أهل الثقة هكذا، والرفع في جميع هذا جيد قوي. وذلك أنك إن شئت قلت: أحق أنك ذاهب، وأأكبر ظنك أنك منطلق، تجعل الآخر هو الأول. انتهى. يريد أنك تجعل أن مبتدأ مؤخراً، وما قبلها خبراً مقدماً. وقد تقدم ما يتعلق به في الشاهد الرابع والستين، في باب المبتدأ والخبر. وقوله: ألا أبلغ بني خلف رسول *** أحقاً أن أخطلكم هجاني الأخطل هنا هو الشاعر المشهور النصراني، وكانت بينه وبين النابغة الجعدي الصحابي مهاجاة. وبنو خلف: رهط الأخطل من بني تغلب. وروي: ألا أبلغ بني جشم رسول وجشم ، بضم الجيم، وفتح الشين المعجمة، من بني تغلب أيضاً. قال الأعلم: الرسول هاهنا بمعنى الرسالة، وهو مما جاء على فعول كالوضوء والطهور. ونظيرها الألوك، وهي الرسالة أيضا. انتهى. وقال ابن هشام في شرح أبيات ابن الناظم: رسولاً حال من الفاعل، واسم للمصدر، وبمعنى الرسالة، مثلها في قوله: لقد كذب الواشون ما بحت عندهم *** بليلى ولا أرسلتهم برسول فيكون مفعولاً ثانياً. ولو منع مانع مجيء رسول بمعنى الرسالة، محتجاً بأنهم لم يستندوا في ذلك إلا إلى هذا البيت، وهو محتمل للوصفية على أنه حال، لم يحسن، لأنه يلزم عنه كون الحال مؤكدة لعاملها لفظاً ومعنى، ومجيء فعول للجماعة، وزيادة الباء في الحال. وهذه وإن كانت أموراً ثابتة، نحو: وأرسلناك للناس رسولاً ، ونحو: فإنهم عدو لي ، ونحو: فما رجعت بخائبة ركاب *** حكيم بن المسيب منتهاها إلا أن اجتماعها بعيد. انتهى. وقد أخذ العيني هذا الكلام بإخلال فيه، ولم يعزه إليه. وهذا البيت استشهد به ابن الناظم في شرح الألفية على أنه إذا غلب الاسم بالألف واللام، لم يجز نزعها منه إلا في نداء، نحو: يا نابغة ويا أخطل، وإضافة، نحو: نابغة بني ذبيان، وأخطلكم في هذا البيت. والاستفهام هنا للتقرير، ومعناه حملك المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر، قد استقر عنده ثبوته ونفيه. وقال العيني: الهمزة للإنكار التوبيخي، فيقتضي تحقق ما بعدها، وأن فاعله ملوم على ذلك، وكلاهما خارجان عن الاستفهام الحقيقي. والبيت من قصيدة للنابغة الجعدي، هجا بها الأخطل، وبني سعد بن زيد مناة، ومدح بها كعب بن جعيل؛ لقضائه له على بني سعد. وبعده: فلولا أن تغلب رهط أمي *** وكعب وهو مني ذو مكان تراجمنا بصدر القول حتى *** نصير كأننا فرسا رهان ومطلع القصيدة: وظل لنسوة النعمان من *** على سفوان بوم أروناني فأعتقنا حليلته وجئن *** بما قد كان جمع من هجان وسفوان ، بالتحريك: اسم ماء. وأروناني: شديد. والحليلة: الزوجة. والهجان: كرائم الأموال وأشرفها. وترجمة النابغة الجعدي تقدمت في الشاهد السادس والثمانين بعد المائة. وأنشد بعده: أفي حق مواساتي أخاكم *** بمالي ثم يظلمني السريس على أن مجيء في مع حق يدل على أن حقاً ، إنما ينصب على الظرفية بتقدير في. وهذا ظاهر. والبيت من قصيدة لأبي زبيد الطائي النصراني، أولها: ألا أبلغ بني عمرو بن كعب *** بأني في مودتكم نفيس وفيها يقول: فما أنا بالضعيف فتظلموني *** ولا حظي اللفاء ولا الخسيس أفي حق مواساتي أخاكم *** بمالي ثم يظلمني السريس وسببها كما نقل عن ابن الأعرابي، قال: كان أخوال أبي زبيد تغلب، وكان يقيم فيهم أكثر أيامه، وكان له غلام يرعى إبله، فغزت بهراء بني تغلب، فمر بنو تغلب بغلامه، فدفع إليهم إبل أبي يزبيد، وقال: انطلقوا أدلكم على عورة القوم، وأقاتل معكم. والتقوا فانهزمت بهراء، وقتل الغلام، ولم يبعث إليه بنو تغلب دية غلامه، وما ذهب له من إبله. فقال في ذلك هذه القصيدة. ونفيس: راغب فيه لنفاسته، يقال: نفست فيه نفاسة، أي: رغبت فيه، ونافست في الشيء منافسة ونفاساً، إذا رغبت فيه على وجه المباراة في الكرم. واللفاء ، بفتح اللام بعدها فاء، قال صاحب الصحاح: هو الخسيس من الشيء، وكل شيء يسير حقير، فهو لفاء. وأنشد هذا البيت، وقال: يقال: رضي فلان من الوفاء باللفاء، أي: من حقه الوافي بالقليل. ويقال: لفاه حقه، أي: بخسه. الخسيس: الدنيء. والمواساة: مصدر واساه بماله، قال صاحب الصحاح: آسيته بمالي مؤاساة، أي: جعلته أسوتي فيه. وواسيته لغة ضعيفة فيه. وفي المصباح: آسيته بنفسي بالمد: سويته. ويجوز إبدال الهمزة واواً في لغة اليمن، فيقال: واسيته. والسريس ، بسينين مهملتين، قال صاحب الصحاح: هو الذي لا يأتي النساء. قال أبو عبيد: هو العنين. د وأنشد لأبي زبيد الطائي: أفي حق مواساتي أخاكم البيت أقول: أنشده أبو عبيد في الغريب المصنف. قال شارح أبياته ابن السيرافي: يقول: أيكون في الحق أن أبذل مالي، وأتفضل بإعطاء ما لا يستحق علي، ثم أظلم، وأمنع مالي، ويتم علي ذلك من رجل سريس. يريد أن الذي ظلمه ليس بكامل من الرجال. انتهى. وفي درة الغواص للحريري: العرب تسمي العنين السريس، كما قال الشاعر: ألا حييت عنا يا لميس *** علانيةً فقد بلغ النسيس رغبت إليك كيما تنكحيني *** فقلت بأنه رجل سريس ولو جربتني في ذاك يوم *** رضيت وقلت: أنت الدردبيس انتهى. ولميس: اسم امرأة. والنسيس بالنون بعدها سين مهملة: بقية الروح. والدردبيس: الداهية. وترجمة أبي زبيد تقدمت في الشاهد الثاني والثمانين بعد المائتين. وأنشد بعده: أحقاً بني أبناء سلمى بن جندل تمامه: تهددكم إياي وسط المجالس في أنه مثل قوله: أفي حق مواساتي أخاكم في أن تهددكم فاعل أحقاً، ومبتدأ وأحقاً ظرف وقع خبراً له. وكذلك مواساتي فاعل والظرف قبله خبره. وقد جاء فيهما الفاعل الصريح والمبتدأ الصريح موضع أن المؤولة بأحدهما. وبني: منادى. وقد أنشد الشارح هذا البيت ابتداء في باب المبتدأ، وفي باب المفعول المطلق، وفي باب الحال، ولهذا قال البيت ولم ينشده كاملاً. وقد شرحناه في الشاهد الرابع والستين. وأنشد بعده: وهو من شواهد سيبويه: ولقد طعنت أبا عيينة طعنةً *** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا على أن سيبويه، قال: جرم في البيت: فعل ماض بمعنى حق، وفزارة: فاعل، وأن يغضبو: بدل اشتمال. أي: حق غضب فزارة بعده. وقال الفراء: بل الرواية بنصب فزارة، أي: كسبت الطعنة فزارة الغضب، أي: جرمت لهم الغضب. هذا كلام الشارح، وليس في كلام سيبويه ما نقله عنه، وهذا نصه: وأما قوله تعالى: {لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون ؛ فإن جرم عملت لأنها فعل، ومعناها: لقد حق أن لهم النار، ولقد استحق أن لهم النار. وقول المفسرين: معناها حقاً أن لهم النار، يدلك على أنها بمنزلة هذا الفعل إذا مثلت. فجرم بعد لا عملت في أن عملها في قول الفزاري: ولقد طعنت أبا عيينة طعنةً *** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا أي: أحقت فزارة. وزعم الخليل أن جرم إنما تكون جواباً لما قبلها من الكلام، يقول الرجل: كان كذا وكذا، فتقول: لا جرم أنهم سيندمون، وأنه سيكون كذا وكذا. انتهى كلامه. فليس فيه ما يقتضي أن فزارة: فاعل، وأن يغضبوا: بدل، وإنما أورد البيت تأييداً لكون جرم في الآية ونحوها في الأصل فعلاً يرفع الفاعل، وفاعلها في البيت ضمير الطعنة، ولا يريد أن فزارة مرفوع بها، وإلا لما كان لقوله: أحقت فزارة وجه. وإنما أتى به ليفرق بين ما في الآية، وبين ما في البيت، فأفاد أنها في البيت متعدية، ولذا قال أحقت بالألف. قال أبو جعفر النحاس: وعندي عن أبي الحسن في كتاب سيبويه: أي: أحقت فزارة، بالألف. انتهى. وقال الأعلم: الشاهد في قوله: جرمت فزارة، ومعناه على مذهب سيبويه حقتها للغضب. وغيره يزعم أن معنى: جرمت فزارة أن يغضبوا أكسبتهم الغضب، من قوله عز وجل: {لا يجرمنكم شنآن قوم . ويقال: حققته أن يفعل، بمعنى أحققته. وحققته، أي: جعلته حقيقاً بفعله. انتهى. وكأن روايته في الكتاب: أي: حقت فزارة، بلا ألف. وحقت متعدية كما بينها. ويدل لما قلنا أيضاً قول ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب، قال: قوله: جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا، أي: كسبت فزارة الغضب عليك. وقول الفراء: وليس قول من قال: حق لفزارة الغضب بشيء، رداً منه على سيبويه والخليل، لأن معناه عندهما: أحقت فزارة الغضب. فأن يغضبوا على تأويلهما مفعول سقط منه حرف الجر، وهو على قول الفراء مفعول، لا تقدير فيه لحرف الجر. وكلا التأويلين صحيح، وجملة جرمت فزارة: صفة لطعنة، كأنه قال: طعنة جازمة. انتهى. وكأنه لم يقف على كلام الفراء. وهذا نصه في تفسيره عند قوله تعالى: {لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ، من سورة هود، قال قوله: لا جرم أنهم، كلمة كانت في الأصل، والله أعلم، بمنزلة لا بد أنك قائم، ولا محالة أنك ذاهب، فجرت على ذلك، وكثر استعمالهم إياها، حتى صارت بمنزلة حقاً. ألا ترى أن العرب تقول: لا جرم لآتينك، لا جرم لقد أحسنت. وكذلك فسرها المفسرون بمعنى الحق، وأصلها من جرمت، أي: كسبت الذنب. وليس قول من قال: إن جرمت كقولك: حققت وحققت بشيء، وإنما لبس على قائله قول الشاعر: ولقد طعنت أبا عيينة ....... ...البيت فرفعوا فزارة، وقالوا: نجعل الفعل لفزارة، كأنه بمنزلة حق، وحق لها أن تغضب. وفزارة منصوبة في قول الفراء، أي: جرمتهم الطعنة أن يغضبوا، أي: كسبتهم. وموضع أن مرفوع، كقول الشاعر: أحقاً عباد الله جرأة محلق *** علي وقد أعييت عاداً وتبع ومحلق: رجل. انتهى كلامه، ونقلته من خط الخطيب البغدادي المحدث المشهور. فجرم عند الفراء اسم، وعند سيبويه فعل ماض. وليس ما رده الفراء موجوداً في كلام سيبويه، حتى يكون رداً على كلام سيبويه والخليل، وإنما هو رد على من قاله غير سيبويه، كأبي عمرو بن العلاء، وأبي زيد، ويونس، وأضرابهم. ويؤيده أن الشريف المرتضى نقل كلام الفراء وما رده في أماليه، ولم يجر لسيبويه ذكراً. قال: فأما قوله لا جرم فقال قوم: معنى جرم كسب. وقالوا في قوله تعالى: {لا جرم أن لهم النار إن لا رد على الكفار، ثم ابتدأ، فقال: جرم أن لهم النار، بمعنى كسب قولهم أن لهم النار. وقول الشاعر: نصبنا رأسه في رأس جذع *** بما جرمت يداه وما اعتدينا أي: بما كسبت. وقال آخرون: معنى جرم حق، وتأولوا الآية بمعنى حقق قولهم أن لهم النار. وأنشدوا: ولقد طعنت أبا عيينة طعنةً البيت أراد: حققت فزارة. وروى الفراء: فزارة بالنصب، على معنى كسبت الطعنة فزارة الغضب. وقال الفراء: لا جرم في الأصل مثل لا بد ولا محالة، ثم استعملته العرب في معنى حقاً، وجاءت فيه بجواب الأيمان. انتهى. وقد نقل الجوهري كلام الفراء بعينه في الصحاح. العجب من ابن بري في قوله، تبعاً لابن السيد: هذا رد على الخليل وسيبويه، لأنهما قدراه أحقت فزارة الغضب، أي: بالغضب، فأسقط الباء. وفي قول الفراء لا يحتاج إلى إسقاط حرف الجر فيه، لأن تقديره كسبت فزارة الغضب عليك. انتهى. وما نقله منهما حق لا شبهة فيه. وأما ما وجه التعجب، فإنه كيف يصح قوله: هذا رد على الخليل وسيبويه، لأنهما قدراه: أحقت فزارة الغضب، مع قول الفراء: فرفعوا فزارة بجعله قول سيبويه والخليل؟ والذي قاله الشارح. رأيته في تفسير الزجاج وهو متأخر عن الفراء، قال عند قوله تعالى: {لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ، من سورة النحل، ما نصه: معنى لا جرم حق أن الله، ووجب أن الله. وقوله: لا رد لفعلهم. قال الشاعر: ولقد طعنت أبا عيينة ....... ..البيت المعنى: حقت فزارة بالغضب. انتهى. وقال أيضاً في هذه السورة عند قوله تعالى: {لا جرم أن لهم النار: لا رد لقولهم. المعنى والله أعلم: ليس ذلك كما وصفوا، جرم فعلهم هذا، أي: كسب. وقيل: إن أن في موضع رفع. ذكر ذلك قطرب. انتهى. وقطرب تلميذ سيبويه. وقول الشارح رحمه الله: أي جرمت لهم الغضب، كقوله تعالى: {ولا يجرمنكم شنآن قوم ، أي: لا يجرمن لكم، ظاهره أن هذا من كلام الفراء. وليس كذلك كما نقلنا كلامه. وهذه عبارته في آية المائدة: وقوله: ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا قرأ يحيى بن وثاب والأعمش: ولا يجرمنكم من أجرمت. وكلام العرب وقراءة القراء يجرمنكم بفتح الياء، جاء التفسير: ولا يحملنكم بغض قوم. قال الفراء: وسمعت العرب تقول: فلان جريمة أهله، يريدون كاسب لأهله. وخرج يجرمهم: يكسب لهم، والمعنى فيهما متقارب، أي: لا يكسبنكم بغض قوم أن تفعلوا شراً، فأن في موضع نصب. فإذا جعلت في أن تعتدوا على، ذهبت إلى معنى لا يحملنكم بغضهم على أن تعتدوا، فيصح طرح على كما تقول: حملتني أن أسوءك، وعلى أن أسوءك. انتهى كلامه. وقد أخذه صاحب الكشاف، وأوضحه، قال: جرم يجري مجرى كسب في تعديته إلى مفعول واحد واثنين، تقول: جرم ذنباً نحو كسبه، وجرمته ذنباً نحو كسبته إياه. ويقال: أجرمته ذنباً على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين، كقولهم: أكسبته ذنباً. وعليه قراءة عبد الله: لا يجرمنكم ، بضم الياء، وأول المفعولين على القراءتين ضمير المخاطبين، والثاني أن تعتدوا، وأن صدوكم بفتح الهمزة متعلق بالشنآن بمعنى العلة. والشنآن: شدة البغض. والمعنى: لا يكسبنكم بغض قوم لأن صدوكم الاعتداء ولا يحملنكم عليه. انتهى. وقال أيضاً في قوله تعالى: {لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم من سورة هود: جرم مثل كسب في تعديه إلى مفعول واحد، وإلى مفعولين. تقول: جرم ذنباً وكسبه. وجرمته ذنباً، وكسبته إياه. قال: جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا ومنه قوله تعالى: {لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم ، أي: لا يكسبنكم شقاقي إصابة العذاب. وكذا قال الزجاج في تفسيره، قال: أي: لا يحملنكم بغضكم المشركين على ترك العدل. يقال: أجرمني كذا، وجرمني، وجرمت، وأجرمت بمعنى واحد. وقيل لا يجرمنكم: لا يدخلنكم في الجرم، كما تقول آثمته: أدخلته في الإثم. انتهى. وحاصله أن لا جرم فعل عند سيبويه بمعنى حق يطلب فاعلاً، ومصدر عند الفراء يطلب فاعلاً أيضاً. وهذا عندهما إذا كانت أن بعدها، وأما في القسم نحو: لا جرم لقد كان كذا، فلا. ولا عند سيبويه زائدة، إلا أنها لزمت جرم لأنها كالمثل. كذا قال الأعلم. وقال أبو حيان في الارتشاف: والوقف على لا عند سيبويه، ولا يجوز أن توصل بجرم، لأنها ليست نفيها. انتهى. وعند الفراء لا ركبت مع جرم، وصارت بمعنى لا بد، ولا محالة، ثم استعملت بمعنى حقاً، كما تقدم. وقال أبو حيان: وذهب الفراء إلى أن جرم بمعنى كسب، ركبت مع لا وصارت بمنزلة لا بد. ولا يقف على لا. وأن بعدها على تقدير من، كما تقول: لا بد أنك ذاهب، أي: من أنك ذاهب. هذا كلامه وفيه نظر. وأما جرم بدون لا، المتصرفة كالتي في البيت، فهي فعل متعد عند سيبويه كما يظهر من قوله: أي: أحقت فزارة، بالألف. وعند الفراء متعدية تارة إلى مفعولين كقوله في سورة هود، وليس الأول على تقدير حرف الجر، كما أوله الشارح، وإلى واحد تارة كقوله في سورة المائدة. وعليه مشى الزجاج والزمخشري. ولم يقل أحد فيما رأيت إنها فعل لازم غير قطرب. وقول الشارح المحقق: وحكى الكوفيون فيها عن العرب وجوهاً من التغيير حكى الفراء منها وجهين: قال في تفسير آية هود: ولكثرتها في الكلام حذفت منها الميم، فبنو فزارة يقولون: لا جر أنك قائم، وتوصل من أولها بذا. أنشدني بعض بني كلاب: إن كلاباً والدي لا ذا جرم *** لأهدرن اليوم هدراً في النعم هدر المعنى ذي الشقاشيق اللهم انتهى. قال السيد المرتضى في أماليه وذكر هذين الوجهين والشعر: المعنى: الذي يدخل العنة من الإبل، وهي الحظيرة. وذلك أن الفحل اللئيم إذا هاج حبس حتى لا يضرب في النوق الكرام، ومنه قول الوليد بن عقبة: قطعت الدهر كالسدم المعنى *** تهدر في دمشق فلا تريم وأصله المعنن، فقلبت إحدى النونات ياء. واللهم ، بكسر اللام وفتح الهاء: الذي يلتهم كل شيء: أي: يبتلعه. وقد زاد لغة ثالثة، وهي لا جرم بضم الجيم وتسكين الراء مع الميم. انتهى. وهذه زيادة على ما أورده الشارح المحقق. ونقل المفضل بن سلمة في كتاب الفاخر وجهي الفراء، وقال: وحكى غير الفراء لا أن ذا جرم، ولا ذو جرم. انتهى. وهذه الأخيرة زيادة على ما ذكره الشارح. وزاد ابن الأعرابي ذي على ما نقله عنه ابن مكرم، فقال: قال ثعلب: الفراء والكسائي يقولان: لا جرم تبرئة، بمعنى لا بد، ويقال: لا جرم ولا ذا جرم، ولا عن ذا جرم، ولا جر بلا ميم. وذلك أنه كثر في الكلام، فحذفت الميم كما قالوا: حاش لله، والأصل: حاشا. وسو أفعل والأصل: سوف أفعل. انتهى. ولنرجع الآن إلى شرح البيت، فنقول: قال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب: البيت لأبي أسماء بن الضريبة، وقيل بل هو لعطية بن عفيف. ويقرأ طعنت بضم التاء، وهو غلط والصواب فتحها، لأن الشاعر خاطب بها كرزاً العقيلي ورثاه، وكان طعن أبا عيينة، وهو حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، يوم الحاجر. ويدل على ذلك قوله قبله: يا كرز إنك قد فتكت بفارس *** بطل إذا هاب الكماة وجببو وجببوا بالجيم والباء الأولى مشددة. قال صاحب الصحاح: التجبيب: النفار. يقال: جبب فلان، فذهب. وقال غيره: التجبيب: الفرار. وكرز بضم الكاف. وأبو أسماء جاهلي. والضريبة فعيلة من الضرب. وكذا عطية بن عفيف جاهلي. وأنشد بعده:
|